حرب حزيران ورحلة النزوح إلى عمان

أهم الأخبار

حرب حزيران ورحلة النزوح إلى عمان

 

كتب محمد أبوعريضة

 كان الفجر قد أخذ بتلابيب اللحظة، يفرك أذنها حيناً، ويداعب خصلات شعرها، التي تدلت، تلامس أكتافها، حيناً آخر..استعذبت ذاك السهاد، يتسلّل عبر أفكاري المتناثرة، تأخذني إلى ليلة حالكة بعينها، حينما جلس فيها أطفال وأمهم، وأنا منهم، حول والدي، وهو يصنع فينا شجاعة فقدناها، لمَّا فرت دموعنا من خدرها، حزناً على دار تركناها، وحينما أصرت طفولتي على كشف المستور، قالها والدي مقهوراً: نعم، فقدنا الوطن، وغدا نصل عمان، نصنع فيها مستقبلاً آخر.

كانت تلك حكاية طفل لم يجلس على مقاعد الدرس بعد، هو أنا..ما زلت أذكر صوت أزيز الطائرات، وحديث الكبار عن اليهود، الذين يذبحون الرجال، ويبقرون بطون النساء، ويأخذون الأطفال، مثلي حينذاك، إلى منازلهم، يعملون خدمًا.. في الليلة الأولى، بعد ثلاثة أيام من النكسة، سمعت جارنا علي يقول: طائرات عبد الناصر دُمرَتْ في مواقعها، والجيش الأردني ما زال صامدا في باب العامود.

غالبا، كان الخبر اليقين يصل مع تباشير إطلالة الشمس في صعودها، ومع أن الروح ترتد إلى الجسد، كلما أطلت خصلات أشعة الشمس من هناك، من الشرق، إلا أن الفجر، في ذلك اليوم، كان حزينا، الشمس صعدت بعده إلى السماء فجأة، بلا مقدمات، يبدو أن التعب كان قد استبد بها بالأمس، ولما لجأت إلى فراشها، هناك في الغرب، انفردوا بها، ومارسوا معها طقوس التنويم المغناطيسي، فذهبت في سبات عميق، ويبدو أيضا أن الجرعة زادت قليلا عن حاجتها، فلم تتمكن من النهوض من سباتها مع أذان الفجر، وحينما خرج العمال والموظفون إلى أعمالهم، أحدثوا جلبة أيقظتها، فقفزت من فراشها الغربي مفزوعة، لقد فاتتها صلاة الفجر، حاضرا، وفي ذلك نذير شؤمٍ، فهي ما زالت تذكر تلك الليلة، التي رقصت فيها، حتى الفجر، مع فتيان، التصقت برؤوسهم قلنسوات غريبة الشكل، ولما استفاقت من سباتها، ضاعت نصف الحقيقة في دولة الاحتلال، ويبدو النصف الثاني التحق بالأول، ذلك الصباح.

نعم، أخذني ذلك السهاد، بالأمس، إلى تلك الليلة، كنت قد قفزت من مهجعي مبكرا، التفت إلى الأجساد المحيطة بي، فلم أعرف منها أحدا، حاولت، بعد ذلك، جاهدا إغماض عينيَّ، والذهاب إلى عوالم، كنت قد نسجتها أول الليل، لكن هيهات! لقد فقدت القدرة على النوم، فأخذت أتلمس طريقي بين أجساد أشقائي وشقيقاتي، الذين أخذهم تعب مسير أمس، بين الجبال والسهول إلى حضن ذلك الوادي، فصنع والدي لكل منا مكانا يرقد فيه، يخلصنا من آلام، التهمت أطرافنا، بعد اليوم الأول من رحلة النزوح إلى عمان.

تلمست طريقي، أحاول الوصول إلى حضن أمي، لكن، يبدو أن شقيقي الأصغر كان قد سبقني إلى دفء، وعبق حضنها، فأردت البكاء، لكن، عبراتي خانتني، ومكثت مكانها، في حين اندفع صوتي إلى جوفي بعكس رغبتي. تذكرت في تلك اللحظة والدي، وأخذت أتلمس الطريق من جديد، بين أجساد أفراد أسرتي، إلى أن لامست راحتي الصغيرة وجهه، فقفز من مرقده، وحينما تبين له أن من لجأ إليه، هو أنا، أخذني إليه بعنف، تراءى لي، لحظتها، أن يديه ستهرسان عظامي الهشة، لكنني شعرت بأنفاسه الحرة، تشيع فيَّ الطمأنينة، فاستسلمت له، وذهبت، وأنا أرقد في حضنه، إلى عوالمي، أكمل ما كنت قد بدأت بنسجه أول الليل.

استفاقت الأسرة المرتحلة مع تباشير إطلالة الشمس، لملم الأفراد حاجاتهم القليلة، ووضعوها فوق ظهر حمارٍ، كان قد اشتراه والدي بخمسة دنانير، ليسعفنا على حمل الأثقال، في رحلة النزوح إلى عمان، وقبل أن تنطلق أقدامنا باتجاه الشرق، التفت والدي إليَّ، وقال، وهو يرفع سبابته اليمنى بوجهي: إياك والتحدث مع اليهود، حينما نلتقيهم، فقد يجدون فيك ما يعجبهم، ويأخذونك، لتعمل عندهم خادما.

لزمت الصمت، ولم أجب، كنت أمني النفس، ذلك الحين، أن أعمل نادلا في مقهى خلفي مظلم، بمدينة تل أبيب، لكني كنت خائفا من فراق والدتي، وأشقائي، وشقيقاتي، وكذلك والدي، الذي لم أشعر قط، قبل تلك الليلة، بدفء حضنه، لكن، يبدو أن والدي لاحظ، أن وصيته لم تُغير من ملامح وجهي، فأمسك بيدي، وسحبني جانبا، وقال لي: انتبه، لا تقل لليهود أن "ليرات" الذهب "العسمالي" في قربة الماء، فإن فعلت ذلك، سيأخذون الذهبات، ونصل عمان من دون مال يسترنا، فأجبته: لا لن أقول شيئا، ولن أنظر إلى اليهود، حتى لو نظروا إليَّ.

"ليرات العسمالي"، هي عشرين "ليرة" من الذهب العثماني، كانت والدتي، قد جمعتها، منذ زمن بعيد، قامت بتثبيتها على غطاء للرأس، يُدعى "عريقية"، وذلك بإدخال خيط من الحرير في حلقة صغيرة من الفضة، ملتصقة بطرف "ليرة" الذهب، ومن ثم يخاط الخيط الحرير مع غطاء الرأس "العريقية"، وهذا هو أحد أشكال التزيين عند النساء في جنوب فلسطين.

حين حل علينا المساء، في طريق رحلتنا إلى عمان، وأردنا المبيت بين الجبال المطلة على مدينة أريحا، تذكرت والدتي "ليرات" الذهب، التي تُزين رأسها، فتهامست مع والدي، خوفا من سماع أفراد عائلات أخرى، كانوا يرافقوننا في رحلة النزوح إلى عمان، وقبل أن نلجأ إلى مراقدنا للنوم، خلعت والدتي غطاء رأسها "العريقية"، وقطعت الخيوط، التي تربط "الليرات" مع "العريقية"، وأعطت الذهب لوالدي، فحملها بين راحتيه، وتناول قربة الماء، وذهب بعيدا عنا، وألقى بالذهبات في قربة الماء، وحينما هم بالعودة إلى مكان أسرتنا، شاهدني، وأنا أقف بالقرب منه، أنظر إليه، فخشي أن أفشي السر لليهود، عندما نلتقيهم، فحذرني أكثر من مرة، ألا أتحدث مع اليهود.

وصلت الشمس إلى كبد السماء، وكانت أشعتها الملتهبة قد أضنتنا، وكان العطش قد أفقدنا القدرة على الاستمرار في السير، وكلّما حاول أحدنا شرب الماء من القربة، نهره والدي، وطلب منه الصمود، قائلاً: كلها ساعة، ونصل الجسر. ولولا انتباه عجوز، كانت ترافق عائلة من بلدة "بيت فجَّار"، التحقت بقافلتنا في الطريق، لاستمر الحال على ما هو عليه، فقد أخذت العجوز، كلما لحظت التعب، وقد استبد بأحدنا، تسقيه قليلا من ماء، كانت تحمله في قربة على ظهرها، فيبدو أنها، بغريزتها، قد أدركت أن قربة الماء، التي نحملها على ظهر الحمار، فيها شيء، يحول دون قدرتنا على الارتواء من مائها.

بعد ظهر ذلك اليوم، وصلنا إلى الجسر المُقام على نهر الأردن، وشاهدت الجنود اليهود، يلوحون لنا من بعيد، ورأيت المُجندات اليهوديات يتوددن إلى الأطفال النازحين مع أهاليهم، وفجأة تقدمت مني إحدى تلك المُجندات، وأشارت بيدها أن اقترب منها، فتذكرت كلمات والدي، وإذا بساقيَّ تسابقان الريح، خوفا من إعجابها بي، وأخذها لي، لأعمل خادما عندها في البيت، أو أن أستسلم لإرادتها، وأبلغها عن مكان "الليرات العسمالي".